في الحلقات السابقة رأينا أهمية معرفة الله وما هي الطرق التي يمكن أن يعلن بها الله عن نفسه لنعرفه وندركه. من هذه الحلقة، ننتقل إلى دراسة طبيعة الله وصفاته الطبيعية والأدبية،
سوف نبدأ- من تلك الحلقة – بدراسة طبيعة الله والفرق بين طبيعة الله وبين صفات الله الطبيعية.
عندما نتحدَّث عن طبيعة الله نتحدَّث عن طبيعة شخص وليس عن صفات أو قدرات، فعندما نتكلم عن صفات الله الطبيعية، نحن نتحدَّث عن قدرات الله، فمثلاً قدرات الله من نحو الزمان هو كونه أزليّ أبديّ، ومن نحو المكان هو موجود في كل مكان وكل مكان موجود في حضرة الله، وهو كلِّي القدرة والمعرفة.
ولتوضيح هذه الحقيقة نتحدَّث عن الفرق بين طبيعة الإنسان وبين صفات الانسان الطبيعية، فنقول إن طبيعة الإنسان هي روح ونفس وجسد ولكن عندما نتحدث عن قدراته الطبيعية لوصفها نقول إن بصره حاد، ويتميز بقوة جسدية تمكنه من الجري لمسافة طويلة بدون تعب، كما لديه قدرة على التفكير بسرعة وهكذا…
في هذه الحلقة سوف نتناول طبيعة الله من حيث أنه روح.
هناك شواهد كتابية كثيرة تتحدَّث عن هذه الحقيقة، وهي لا تتحدَّث عن روح الله بل عن طبيعة الله أنه روح.
– “اَللَّهُ رُوحٌ وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا ” (يو 4: 24 )
– “اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّر”َ ( يو 1: 18 )
معنى ذلك أن طبيعة الله ليست مادية بل هي طبيعة روحية، وبالتالي ليست خاضعة للقوانين المادِّية. الله روح فهو ليس مادة أو شئ.
في نفس الوقت نجد أن هناك عبارات كثيرة في الكتاب المقدَّس تتحدَّث عن يد الله وعينيّ الله وأذن الله، وكثيراً مانتصور من خلال هذه العبارات أن الله هو مجموعة أشياء (يد وعين وأذن) ولكن هذه ما هي إلا تعبيرات مجازية تُعبِّر علن أنه قادر ويسمع ويرى.
الإنسان له طبيعة مادّية ” وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً.” ( تك 2: 7) فهو تراب من الأرض أي طبيعة مادّية ونفخ فيه الله طبيعة روحية فإمتزجت المادة بالروح فصار الإنسان نفساً حية. لذا نقول إن الإنسان روح ونفس وجسد ولكن الله روح فقط، ولأجل هذا فالساجدين الحقيقيين بالروح يسجدون، فنحن لا نسجد بأجسادنا بل بأرواحنا.
الروح ليس خاضعاً للقوانين المادية وحدود المادة، فالله روح لذا عيوننا المادية لاتستطيع أن تراه، وهذا ما تعنيه الآيات السابقة.
السبب هو أن عيوننا المادية لا يمكن أن ترى الأمور غير المادية، فهذا مستحيل، لذا يقول الله لموسى: ” الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ” ولكي تراني لابد أن تخرج من العالم المادي وتخرج من الجسد. ” الله لم يره أحد قط ” لكنه يريد أن يُعلن نفسه لنا لذا صار جسداً لكي نراه ” وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً ” ( يو 1: 14 ).
لقد رأينا في المسيح الله غير المنظور، وهذه هي فكرة التجسد ” الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا ” ( 1يو 1: 1).
فلكي ترى عيوننا وتسمع أذاننا وتلمس أيدينا ما لايُرى، صار منظوراً في المسيح لأنه صار جسداً، وهذه هي قيمة التجسد، فالمسيح جاء ليُعلن ويصحح الصورة التي شُوهت عبر العصور عن الله الذي لم يره أحد قط من قبل .
“17وَمَلِكُ الدُّهُورِ الَّذِي لاَ يَفْنَى وَلاَ يُرَى، الإِلَهُ الْحَكِيمُ وَحْدَهُ، لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ “. ( لايفنى ) أي أنه أبديّ ، ( لايُرى ) هذا من طبيعة الله أنه لا يُرى . ( 1تي 1: 17 )
“كلَّم الله موسى: 20وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ».”( خر 33 : 20) .. مرَّات كثيرة لانستطيع أن نفهم هذه الآية، ولكن عندما نعرف طبيعة الله ونفهم أن الله روح سنفهم معنى هذه العبارة ولماذا قالها الله لموسى في ذلك الوقت .
للذين شككوا في وجود الله وخرجوا للفضاء ولم يروا الله ، و هذا ما قد حدث عندما صعد أول رائد للفضاء في الاتحاد السوفيتي ورجع ليقول:” إني قد صعدت للسماء ولم أجد الله في السماء ” فالفضاء هو جزء من الخليقة لذا فهو لايزال في العالم المادي لذلك لم يرى الله ولن يراه هناك.
بالروح نرى الله و نتعامل معه، وبالروح نستطيع أن نتصل به ونسمعه ونشعر به: “اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا»( يو 4: 24 ).
الذي فينا يستطيع أن يتعامل ويتلامس مع الله هو أرواحنا، لذا أساس العلاقة بيني وبين الله هو علاقة روحية، على الرغم من أن ذهني يفهمها ومشاعري تحسها لكن طبيعة العلاقة روحية… الساجدون الحقيقيون بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ، فالخشوع هو خشوع الروح واللقاء لقاء بالروح وليس بالجسد
إنتبه لهذه الحقيقة أن الله روح وهذا يُبطل تساؤلات كثيرة لا قيمة لها عن الله وتشير بأصابع واضحة لأعماقنا كبشر، فأنا أعرف الله بالروح وأسجد له بالروح وأسبحه بالروح وأمجده بالروح وألتقي به بالروح ” الساجدون الحقيقيون بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا”.
عندما نرسم الإنسان نرسمه بالدوائر الآتية فنقول إنه جسد وروح, فالإطار الخارجي للإنسان مادي بيولوجي وفي أعماق الإنسان روح خالدة ونسمة من الله، ولقاء الجسد بالروح خَلق في الإنسان ما يُسمى بالنفس وهي المشاعر والأفكار والإرادة وهذه هي شخصية الإنسان ، فالنفس تعبر عن شخصية الإنسان ، والإنسان كائن يجمع بين المادة والروح الإلهية فهو مخلوق لكنه مخلوق أبديّ لأن بداخله روح أبديّ.
هذا وسوف نستكمل في الحلقات القادمة الحديث عن طبيعة الله.