بدأنا في الحلقتين الماضيتين تناول الصفة الاولى من صفات الله الأدبية وهي المحبة، ورأينا كيف أن الحب الالهي حب يختلف اختلافاً كلياً عن المحبة التي نعرفها نحن، فالمحبة صفة وليست مشاعر وهي التي تحكم كل تعاملات الله مع الإنسان. وقد استعرضنا بعض النصوص الكتابية من العهدين القديم والجديد التي تناولت محبة الله بتعبيرات كتابية مختلفة، وبدأنا بالفعل في تناول صفات هذه المحبة ورأينا أنها محبة غير مشروطة وغير محدودة وصالحة.
في هذه الحلقة، سوف نتناول باقي صفات المحبة الالهية.
4) محبة تُعطي
– “مَا أَجْوَدَهُ وَمَا أَجْمَلَهُ” (زك9: 17)
– “وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ”. (يع1: 5)
المحبة الالهية محبة تعطي وتجود لكل الناس على اختلاف الواننا ومعتقداتنا سواء كنا مؤمنين أو خطاة بدون حساب وبدون تعيير. إنها لا تذكر عطاء الماضي لتُحاسبنا عليه حتى ولو كنا لم نقدره تقديراً كافياً بل هي محبة سخية في العطاء، فسخاء عطاء الله نابع من محبته وليس من استحقاقنا.
أحياناً كثيرة، لا نريد أن نأتي الى الله طالبين الغفران أو أي عطية أخرى ظناً منا أن الله يسائلنا عن عطاياه الماضية أو أنه يحصي علينا عطاياه، وننسى أن محبة الله محبة جوادة تعطي بسخاء دون النظر إلى الماضي.
5) محبة تُضحي
المحبة الحقيقية الإلهية هي عطاء الذات للآخر، وهذا هو ما صنعه الرب يسوع من أجل العالم فلقد أعطى نفسه ووضعها حتى الموت من أجل فداء الإنسان، فالله أحب الانسان أكثر مما أحب نفسه وأراد أن يضحي بالابن الوحيد من أجل الانسانية.
– “بِهَذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ:أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ. ” (1يو3: 16)
– “لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ”.(يو3: 16)
– “فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ:لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا”.(1يو4: 10- 6)
6- محبة تشارك وتتحد بالآخر
الحب دائما يسعى إلى الاتحاد بالآخر، وهذا ما نراه في الثالوث في علاقة الآب والابن والروح القدس مع بعضهم البعض – تلك الوحدة الكاملة الشاملة المبنية على الحب وهذا يظهر جلياً في الآية التالية والتي تؤكد على رغبة الآب في وحدة الجميع معاً مثل وحدة الآب والابن، فهو لا يريد فقط أن نتحد نحن ببعضنا البعض فقط بل أن يتحد هو أيضاً معنا، فهذا هو منطق الثالوث الذي يجمع الآب والابن والروح القدس معاً وهو أيضا يريد أن يجمع الكل مع الله
– “لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي”. (يو21:17)
هذه هي رغبة الله أن يتحد بنا ويشترك معنا ويوجد فينا ولكن بحسب اختيارنا، فهو يترك لنا حرية الارادة أن نختار هذا الحب أو نرفضه، وقصة الابن الضال تؤكد هذه الحقيقة فالله لايجبر الانسان على العلاقة معه وهذا عين ما صنعه الاب مع الابن الأصغر فعندما أراد الابن أن يترك آباه سمح له بذلك وأعطاه مايخصه من الميراث، وعندما أراد أن يعود رآه أبوه من بعيد فركض اليه ووقع على عنقه وقبله، وهنا تظهر كل صفات المحبة الإلهية التي بلا شروط فهو لم يطالب الابن بأي شيء. هنا تظهر المحبة التي تعطي بسخاء وتضحي بكل شيء والتي تريد أن تتحد بالآخر وتقبله مرة أخرى ابن في بيته ليس ذلك فقط بل يُلبسه الآب الحلَة الأولى ويضع خاتماً في أصبعه ليعيد له السلطان مرة أخرى، فالله يريد أن يتحد بنا لا لأنه يريد أي شيء منا بل لأنه يريد أن يعطي الحب لكل واحد منا.
– “فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ” (عب2: 14)
أهمية صفة “المحبة” في الله
الحب الالهي بهذه الصفات الستة هو حب يُبهر العقل ويجذب القلب.
فنحن لا نحتاج أن نتجمل أو نتنقى أو حتى أن نتغير قبل لقاء الله فهو الوحيد الذي يستطيع أن يفعل هذا، وبالتالي نستطيع أن نبني علاقة صادقة قوية حقيقية مع شخص الله، فالحب هو اللغة التي يستطيع الله أن يفهمها ويتكلمها. وكما رأينا فالحب عند الله له صفات محددة واضحة وليست مشاعر متدفقة، فإذا أردنا أن نختار الله فعلينا أن نختار الحب كأسلوب للحياة وطريقة للتفكير؛ الحب لله والحب للناس الذين على صورة الله، فنحن لا يمكننا أن نتقابل مع الله الإ إذا تعلمنا أن نعيش بالحب، فالوصية الأولى والعظمى وكذلك الوصية الثانية هي كل ما يطلبه الله من الإنسان:
– «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». (لو 27:10)
فلم يتركنا الله هكذا دون أن يعلمنا كيف يمكن أن نعيش الحب سواء له أو للناس بل لقد قادنا إلى مصدر الحب المتدفق والذي لا ينضب الذي يمكننا أن نأخذ منه ماشئنا لنعطي الله والآخرين وهذا ما نراه جلياً في الآية التالية:
– “أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. “(1يو4: 7, 8)
عندما نتيقن أن الله هو مصدر الحب وندرك هذه المحبة الفائقة المعرفة فسنجري اليه لكي نمتلئ بهذا الحب العجيب فيصير في أعماقنا ينبوع ينبع إلى كل وعلى كل المحيطين بنا حتى على أعدائنا الذين يبغون نهايتنا، فنستطيع أن نُباركهم ونُحسن إليهم ونُصلي من أجلهم
– “سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِض عَدُوَّكَ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ (مت5: 44, 45)
واليك الموقف التالي الذي وقفه بولس الرسول في فيلبي (أع16: 16- 34) عندما شهدت لهم امرأة بها روح عرافة بأنه هو ومن معه عبيد الله العلي فأنتهر بولس الروح النجس وأخرجه منها وكان هذا سبب القبض على كل من بولس وسيلا بعدما قام عليهما الجمع وضرباهما ضرباً مبرحاً، ثم وُضعت أرجلهما في المقطرة, رغم أن الرسول بولس كان يحمل الجنسية الرومانية التي كانت تضمن له محاكمة عادلة وعدم التعرض له بالضرب والسجن كما حدث. أما هما فكانا يصليان ويسبحان الله فتزعزعت أساسات السجن. وكان أن أستل السجان سيفه لكي ينهي حياته لأن القانون الروماني يقضي بأن يُجازى السجان بمجموع عقوبات المسجونين الهاربين منه. ولكن الرسول بولس أنقذ السجان من أن يقتل نفسه، فما كان من السجان إلا أن ارتعد أمام هذه المحبة العجيبة التي فاجئاه بها بولس وسيلا, فعوضاً عن الانتقام والغضب الذي كان من المفترض أن يملئ قلبيهما وجد الحب والعطاء، فكان السؤال الذي ملأ قلبه: «يَا سَيِّدَيَّ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟» فقالا: آمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ. فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَاعْتَمَدَ فِي الْحَالِ هُوَ وَالَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ. وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاللهِ.(أع16: 30- 34)
لذا يجب علينا أن:
• نختار الحب طريقاً: فلا ندع مشاعرنا تقودنا تجاه الآخرين بل نختار أن نحب من كل القلب والفكر، وعندئذ سنجد مشاعرنا تفيض وتتدفق بالحب نحو الآخر، بل وقلوبنا تتضرع إلى الله في الصلاة من أجل أعدائنا حتى يعرفوا المسيح.
• نفتح أعيننا كل يوم على محبة الآب : فعندما نرى وندرك كم أحبنا الله ونحن بعد خطاة آثمين وغير مستحقين، حينئذ ستمتلأ قلوبنا بالحب من جديد.
• نفتح قلوبنا لإعلانات الروح القدس عن محبة الله الآب ومحبة الرب يسوع المسيح فيتحول الحب إلى صفة واختيار عميق في حياتنا.
والى لقاء جديد فيه نتناول الصفة الثانية من صفات الله الأدبية
أسئلة للمناقشة
هل تستطيع أن تحب الاخريين بنفس مواصفات محبة الله لك؟ولماذا؟
يري البعض أن الحب مشاعر و البعض الأخر يري الحب قرار ارادي واعي وهناك رأي ثالث أنه يجمع بين الأثنين أذكر رائيك الشخصي ؟
كيف يمكن أن تمتلئ بمحبة الله للاخريين؟(أذكر خطوات عملية)
ماذا تفعل مع شخص تحبه وهو مصر أن يجرحك ويتعدي عليك و يشوه صورتك ؟
ما هي الامور التي يمكن أن تتغير في حياتك عندما تعرف وتدرك محبة الله لك بهذه المواصفات؟