انتهينا من دراسة مقدمة مدرسة المسيح، والتي تعرفنا فيها على طبيعة هذه المدرسة والاختلافات بينها وبين الطرق المختلفة للتعليم، وتعرفنا أيضاً على المبادئ المختلفة التي تميز هذه المدرسة.
الآن نبدأ في دراسة الفصل الاول من فصول هذه المدرسة الرائعة ألا وهي شخصية الله.
ودراسة شخصية الله من الموضوعات الأساسية والهامة التي يُبنى عليها إيماننا وحياتنا مع الله لنتعلم كيف يمكن لنا كمؤمنين أن نحيا مع الرب حياة صحيحة وناضجة ورائعة.
هذه الدراسة هي محاولة للنظر إلى الشمس الساطعة المنيرة حتى نستطيع أن ندرك مع جميع القديسين مجد وجلال الله، وفيها نتعرف على أهمية معرفة الله وطرق معرفته وطبيعة شخصيته وصفاته سواء الطبيعية أو الأدبية. أيضا، سوف تكشف لنا هذه الدراسة مقدار التشوه وعدم الفهم والتضارب الساكن في أعماق قلوبنا عن شخص الله.
الطريقة المثلى لكي نتعرَّف على شخص ما أن نتركه هو ليتحدث عن نفسه، لذا إذا أردنا أن نعرف الله ونقترب من الذات الإلهية يجب علينا أن نسمعه هو.
لكن للأسف الشديد دائما ما نقترب من الله ونحن نظن أننا نعرفه، وكأننا أدركنا وأحطنا بكل جوانب الذات الإلهية غير مدركين أننا محدودين ولنا فكر قاصر مهما كان متسعاً، فالله غير محدود يملأ السماء وسماء السموات.
لذا، في هذه الدراسة سوف نتناول العديد من الآيات الكتابية حتى نعطي الله الفرصة كي يكلمنا عن نفسه.
فكرة معرفة الله، نجدها عبر الأجزاء المختلفة للعهدين القديم والجديد، فإذا رجعنا للوراء وتذكرنا صلاة موسى لله في سفر الخروج لوجدنا هذه الحقيقة.
“فَالآنَ إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَعَلِّمْنِي طَرِيقَكَ حَتَّى أَعْرِفَكَ لِكَيْ أَجِدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ. وَانْظُرْ أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ شَعْبُكَ». ” ( خر33: 13 )
صرخة قلب موسى هي لمعرفة الله ولكي يعلمه الله الطرق التي تؤدي إلى معرفته. لقد أصر موسى على معرفة الذات الإلهية وكانت لديه الرغبة الشديدة في فهم وإدراك والتلامس مع الله في جلاله وبهاؤه وهذا هو الامر الذي يُسر قلب الله.
في نهاية صلاته، قال موسى لله: «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خر33: 18)…في الأعداد التالية، نقرأ عما صنعه الله مع موسى: 17فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «هَذَا الأَمْرُ أَيْضاً الَّذِي تَكَلَّمْتَ عَنْهُ أَفْعَلُهُ لأَنَّكَ وَجَدْتَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ وَعَرَفْتُكَ بِاسْمِكَ». 18فَقَالَ: «أَرِنِي مَجْدَكَ». 19فَقَالَ: «أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَأَّفُ عَلَى مَنْ أَتَرَأَّفُ وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ». 20وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ». 21وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. 22وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. 23ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي. وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى».(خر33: 18- 23).
ننتقل إلى العهد الجديد شاخصين إلى شخص الرب يسوع، فنجد أن ما يملأ قلب الله هو أن يصير مُعلناً وظاهراً للعالم أجمع، وهذا ما نقرأه في إنجيل يوحنا والاصحاح الاول:
“اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ”. (يو1: 18)
فالمسيح هو الاعلان الكامل عن شخص الله، وهذا هو السبب الرئيسي الذي كان في فكر الله عن التجسد وهو أن نعرف بالمسيح من هو الله.
أيضاً، يطلب فيلبس نفس طلبة موسى وهذا ما نجده في إنجيل يوحنا (14) وفيه نجد روعة رد الرب يسوع عليه في تأكيده العجيب أنه هو صورة الله الغير المنظور الذي جاء لكي يصحح صورة الله في عين الإنسان:
قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «يَا سَيِّدُ أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا».قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟(يو14: 8, 9)
وفي صلاة الرب يسوع لأجل تلاميذه ولأجل الذين يؤمنون به بكلامهم يقول: أَيُّهَا الآبُ الْبَارُّ إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ وَهَؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ». (يو17: 25, 26)
(عرفتهم .. وسأعرفهم) أي أن الرب يسوع المسيح عرفنا وعلمنا من هو الله وسيستمر يُعرفنا أكثر فأكثر عن شخص الله، وهذا ماصنعه المسيح بالفعل بعد القيامة وأثناء الخمسين يوماً التالية بظهوراته المختلفة. وهذا أيضا ما صنعه الروح القدس عندما أنسكب على التلاميذ يوم الخمسين فصاروا له شهوداً، ولا يزال الروح القدس حتى الآن يمجد الله في عيني كل من يريد أن يعرفه.
أما الرسول بولس فلقد عبَّر عن هذا الحق وهو يشير إلى تجربته الشخصية، ووصفه بهذا الوصف في رسالته إلى أهل فيلبي الإصحاح الثالث وبدء من العدد السابع إلى العاشر:
“لَكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ. لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ، ” (في3: 7- 10)
ولد بولس واختتن كيهودي لاغش فيه، وتعلم حتى أصبح من الفريسيين الغيورين على الناموس، وتمتع بالعديد من الامتيازات التي كانت تُميزه عن الكثيرين من أترابه مثل قربه من السلطة السياسية وثقتهم فيه وسلطته الدينية كمعلم للناموس، وأمام كل هذه الامتيازات وجد بولس أن معرفة يسوع المسيح أعظم وأغلى من كل ما ربحه في حياته الماضية.
لقد رأى وشهد الرسول بولس بأهمية معرفة المسيح، فكانت كل رغبته هي معرفة الله وإدراك قوة قيامته والاتحاد بآلامه، فبداية طريق الحياة هي معرفة المسيح وإستمرارها في الامتلاء من معرفته، فالحياة الأبدية تبدأ بأن أعرفه وتستمر بإستمرار معرفته، لذلك فهذا هو الموضوع الرئيسي في حياتنا مع الله.
أيضاً نجد الرسول بطرس في رسالته الثانية يذكر نفس هذا الحق:
“وَلَكِنِ انْمُوا فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لَهُ الْمَجْدُ الآنَ وَإِلَى يَوْمِ الدَّهْرِ. آمِينَ” (2بط 3: 18)
يوصي الرسول بطرس في رسالته الى المؤمنين بأن ينموا في النعمة أي في عطية الله التي هي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، ويختم الرسول رسالته بهذه الوصية ليؤكد على أهمية هذا الأمر في العلاقة الحميمة مع الله.
هذه المعرفة ليست مجرد فهم عقلي وليست هي مجرد إختبار شخصي أو معرفة بعض الحقائق أو الأحداث، ولكن هذه المعرفة لها ثلاث مكونات رئيسية هي:
• الفهم: هو الاستيعاب العقلي للحقائق
• الإدراك: هو أن نتلامس ونمسك ونرى الحقائق
• الاختبار: هي أن تتحول الحقائق العقلية إلى حقائق معاشة فعلياً وأن تصير جزء من حياتي
في معرفة الله نمزج هذه الحقائق الثلاث بعضها ببعض، فنحن نفهم أي نستوعب الحقائق بعقولنا وليس هذا فقط بل نتلامس مع الحقيقة ونراها واضحة وهذا هو الإدراك، وعندما تتحول هذه الحقيقة داخلنا الى إختبار شخصي أي جزء من حياتنا نعيشه ونحياه.. هنا فقط نستطيع أن نقول أننا عرفنا الله.
وهذا هو ما يُميز مدرسة المسيح عن باقي طرق التعليم الأخرى، فالتعلُم هنا مبني على الرؤية والمشاهدة وليس على الاستماع فقط. لذا، كتب يوحنا الرسول في رسالته الأولى يقول: “اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ (الفهم)، الَّذِي رَأَيْنَاهُ (الإدراك) بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُأَيْدِينَا (الاختبار) مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. …. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا ” (1يو1:1, 3)
والشخص الوحيد الذي يستطيع أن يأخذنا لنرى ونعاين شخص الله كما يقول يوحنا هو الروح القدس، وهنا نرى أهمية أن نكون مؤمنين ممتلئين بالروح القدس هياكل لله كما تكلمنا في المحاضرة الاولى في موضوع التلمذة. لذلك كتب الرسول بولس الى مؤمني كنيسة أفسس التي كانت في ذلك الوقت كنيسة حية ومن أكثر الكنائس نضوجاً:
“لِذَلِكَ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ سَمِعْتُ بِإِيمَانِكُمْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَمَحَبَّتِكُمْ نَحْوَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، لاَ أَزَالُ شَاكِراً لأَجْلِكُمْ، ذَاكِراً إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ (الفهم) وَالإِعْلاَنِ (المشاهدة) فِي مَعْرِفَتِهِ، مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ”.( أف 1: 15 –20 )
أنه يصلي لأجل الكنيسة كي يعطيهم الله بالروح القدس (الذي هو روح كل حكمة وفهم وهو الذي يستطيع أن يكشف كل الحق عن الله وعن شخصيته وأعماله) أن يعرفوه وأن يفتح عيونهم الروحية لكي يدركوه ويتلامسوا معه.
هذه المعرفة الروحية عن شخص الله غير محددة بوقت فليست لها نهاية، فنحن نبدأ في هذه المعرفة من اليوم الذي تتجدد فيه نفوسنا ونستمر فيها الى الأبد؛ إلى اليوم الذي نلقاه فيه، وهذا ما يميز مدرسة المسيح التي لا يوجد فيها تخرج، بل على العكس نظل تلاميذ لهذه المعرفة وهذا الادراك المذهل المتجدد عن شخص الله المجيد.
أيضاً فيما نحن نتقدم لمعرفة الله نحتاج إلى روح الحكمة والإعلان لنفهم الحق بطريقة صحيحة وندرك ونلمس الله فتتحول هذه الحقائق إلى اختبار حي حقيقي في أعماق قلوبنا.وهذا نفس ما يتكلم عنه الرسول بولس أيضاً لمؤمني كنيسة كورنثوس:
لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هَكَذَا أَيْضاً أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ (2كو3: 11, 12)
فلا أحد يعرف من هو الله إلا الروح القدس الذي هو روح الله. إنه الوحيد الذي يستطيع أن يعلن لنا من هو الله على حقيقيته