في هذه الحلقة سوف نتناول قضية أخرى يظهر فيها من قرائتنا للأيات وكأن الله يتحكم في إرادة الناس وإختيارتهم في الحياة فهو يقسي من يشاء ويرحم من يشاء. هذه القضية هي موضوع قلب فرعون.
في هذا الموضوع نتكلم عن سلطان الله ومسؤلية الإنسان، فالله الذي هو صاحب السلطان قد وضع القوانين الأدبية التي تسمح للإنسان أن يعيش بحرية محدودة، وهذه الحرية المحدودة تكفيه أن يختار بنفسه سعادته في هذا العالم وفي العالم الآتي أيضاً.
وقد شرحنا في الحلقات الماضية هذا القانون بأبعاده المختلفة، ثم بدأنا في الحلقة الماضية رحلة لإعادة تفسير بعض القضايا الإيمانية المطروحة على الساحة، متخذين من النظرية التي سبقنا وشرحناها أساساً لهذا التفسير.. وقد بدأنا هذه القضايا بنظرية الاختيار.
في هذه الحلقة، سوف نتناول قضية أخرى يظهر فيها من قرائتنا للآيات وكأن الله يتحكم في إرادة الناس وإختيارتهم في الحياة حيث يقسي من يشاء ويرحم من يشاء. هذه القضية هي قلب فرعون.
قضية قلب فرعون
– “فَإِذاً لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِي يَرْحَمُ. لأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ: «إِنِّي لِهَذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ». فَإِذاً هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ”. (رو9: 16- 18)
في عدد (16): ” فَإِذاً لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِي يَرْحَمُ” يعلن الله بوضوح أنه ليس بسعينا ومجهودنا ننال الرحمة الالهية بل هي رحمة الله التي تستطيع أن تصل الينا في كل زمان ومكان. أيضاً يعتبر هذا العدد تفسيراً توضيحياً يسوقه الرسول بولس لما جاء في سفر الخروج حيث قال موسى لله: “أَرِنِي مَجْدَكَ”. فَقَالَ: أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَأَّفُ عَلَى مَنْ أَتَرَأَّفُ وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ” ( خر 33 : 18 , 19 ).
ولنا هنا ملاحظة توضيحية على الآية السابقة وهي أن الله لم يقل أنه يرحم من يشاء ويقسي من يشاء بل أنه يرحم من يشاء ويترأف على من يشاء، فلا يوجد أي حديث عن أنه يقسي من يشاء. ولكن في الأعداد من رسالة رومية يقولها صراحة عن أنه: “يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ”، وقد قسى قلب فرعون بالفعل لكي يُظهر فيه قوته أمام الامم والشعوب، فهل هذا فعلاً ما قد صنعه الله بفرعون؛ أنه قد قسى قلبه لكي يضربه بالضربات العشر؟ ولكن ما هو الذنب الذي اقترفه فرعون حتى يعامله الله هكذا؟ وهل هذه هي رحمة الله أنه في رحمته لشعبه يهلك شخص أخر؟ وإذا كان الله يريد أن يُظهر مجده وقوته هل يختار شخصاً ضعيفاً لكي يستعرض عليه قوته الغير محدودة؟ أما كان يكفي ضربة أو اثنتين فقط ثم بعدها يطلق الشعب؟ كل هذه الاسئلة وأكثر منها تدور في أذهاننا وقلوبنا ونحن نقرأ هذه الآيات التي تحكي هذه القصة.
بدايةً يجب علينا أن نرجع إلى القصة الأصلية التي ذُكرت في سفر الخروج حتى نجد إجابة للسؤال التالي الذي يعتبر هو المفتاح الذي يفتح أمامنا هذه القضية وهو: هل كان فرعون في بداية القصة وديع القلب وطلب الله لكن الله رفضه وبدأ يقسي قلبه حتى يعانده، فينتهز الله هذه الفرصة كي يضربه الضربات العشر ويتمجد أمام الأمم والشعوب أم أن فرعون كان قاسي القلب والله استخدم هذه القساوة لكي يظهر مجده؟
لنجد الاجابة علينا أن ندقق في قرائتنا للأحداث، ونبحث في بداية كلام الله لموسى عن هذا الفرعون وذلك في ( خر 3 : 19 ): “وَلَكِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ لاَ يَدَعُكُمْ تَمْضُونَ وَلاَ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ”. في هذه الاية يتكلم الله إلى موسى ليعلن معرفته بهذا الفرعون الذي لن يوافق على خروج الشعب وأنه قاسي القلب، وذلك حتى لاينزعج موسى في مواجهته فرعون عندما يرفض الاخير أن يُطلق الشعب. وأيضاً يعلن الله لموسى الطريقة التي سوف يتبعها لكي يجعل فرعون ينفذ ما طلبه موسى منه، فليس هذا هو قرار الله أن يجعل فرعون يتقسى.
مرة أخرى نقرأ ما كتبه الوحي عن فرعون:
– “فَاشْتَدَّ قَلْبُ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ.ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: قَلْبُ فِرْعَوْنَ غَلِيظٌ قَدْ أَبَى أَنْ يُطْلِقَ الشَّعْبَ” (خر7: 13, 14)
– “وَفَعَلَ عَرَّافُو مِصْرَ كَذَلِكَ بِسِحْرِهِمْ. فَاشْتَدَّ قَلْبُ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ. ثُمَّ انْصَرَفَ فِرْعَوْنُ وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَلَمْ يُوَجِّهْ قَلْبَهُ إِلَى هَذَا أَيْضاً” (خر7: 22, 23)
– “فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْفَرَجُ أَغْلَظَ قَلْبَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ.” (خر8: 15)
في كل مرة يحاول موسى مع فرعون أن يسمح لهم بأن يخرجوا من مصر، كان فرعون يُغلظ قلبه ويُقسيه. وفي المرات العديدة التي كان الوحي يذكر فيها هذه العبارة ” كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ” كأن الوحي يريد أن يقول لنا أن هذا هو ما قد رآه الله في قلب فرعون بحسب علمه ومعرفته الغير محدودة فهو قاسي القلب ومتصلف ولايريد أن يطيع الله.
بعد كل المحاولات التي صنعها موسى مع فرعون ووقوف السحرة أمام موسى في محاولة منهم أن يهزموا القوة التي جاءت بموسى ليقف أمام فرعون مستخدمين سحرهم وشياطينهم لكي يبطلوا قدرة الله، فَقَالَ الْعَرَّافُونَ لِفِرْعَوْنَ: «هَذَا إِصْبِعُ اللهِ». “وَلَكِنِ اشْتَدَّ قَلْبُ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ”. (خر8: 19)
لقد اعترف العرافون أمام فرعون بالاعتراف الحسن أن هذه هي قوة الله التي لاطاقة لهم ولا لإنسان بأن يقف أمامها، فما كان من فرعون إلا أن أغلظ قلبه وقساه أكثر فأكثر.. هذا الذي كان حرياً به أن يرجع إلى الله ليتوب عن عناد قلبه وقساوته ويسمح لشعب الله حينذاك أن يخرج من أرض مصر ليعبد الله في أرضه، ولكنه لم يفعل واستمر في عناد قلبه وهذا ما نقرأه في الآيات التالية:
– “وَلَكِنْ أَغْلَظَ فِرْعَوْنُ قَلْبَهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ أَيْضاً فَلَمْ يُطْلِقِ الشَّعْبَ” (خر8: 32)
– “وَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ وَإِذَا مَوَاشِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَمُتْ مِنْهَا وَلاَ وَاحِدٌ وَلَكِنْ غَلُظَ قَلْبُ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يُطْلِقِ الشَّعْبَ”. (خر9: 7)
– “وَلَكِنْ شَدَّدَ الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا كَمَا كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى”. (خر9: 12)
وهنا يذكر الكتاب ولأول مرة أن الرب شدد قلب فرعون ولكن بعد أربع مرات (كما رأينا في الآيات السابقة). لقد قرر فرعون وبإصرار أن يعاند المشيئة الالهية وأن يغّلظ قلبه فلا يفهم ويسد أذنيه فلا يسمع، وكأن الله كان يريد منه أن يفهم ويقبل القرار الإلهي لينفذه ولكن أمام غلاظة قلبه قرر الله أن يتركه لعناده وقساوته، وهذا ما يوضحه الوحي في رسالة رومية: “وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ. ” (رو1: 28). لقد اسلمه الله لقساوة قلبه وعناده، ثم قرر أن يستخدم حال قلبه الغليظ لكي يعلن الحق وليبقي المعرفة الصحيحة واضحة معلنة أمام أعين الجميع. ثم عاد مرة أخرى فرعون إلى قساوته “وَلَكِنْ فِرْعَوْنُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْمَطَرَ وَالْبَرَدَ وَالرُّعُودَ انْقَطَعَتْ عَادَ يُخْطِئُ وَأَغْلَظَ قَلْبَهُ هُوَ وَعَبِيدُهُ. “(خر9: 34)
وبالمثل أيضاً (قصة راحاب الزانية) والتي لم تكن من شعب الله واستضافت الجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع ليتجسسا الأرض. لقد آمنت بالله وأرادت أن تربط مصيرها بمصير شعبه فكان هذا اختيارها، فعاملها الله حسب رحمته وعلمه أنها مخلصة القلب: “فَتَكُونُ الْمَدِينَةُ وَكُلُّ مَا فِيهَا مُحَرَّماً لِلرَّبِّ. رَاحَابُ الزَّانِيَةُ فَقَطْ تَحْيَا هِيَ وَكُلُّ مَنْ مَعَهَا فِي الْبَيْتِ, لأَنَّهَا قَدْ خَبَّأَتِ الْمُرْسَلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَرْسَلْنَاهُمَا”.(يش6: 17)
مثال أخر على أن الله يعاملنا بحسب اختياراتنا التي نختارها وهو شعب الجبعونيين الذين بخدعة جعلوا رؤساء إسرائيل يقطعون لهم عهداً بالسلام حيث تظاهروا أنهم جاءوا من أرض بعيدة وهم قادمون من بلد مجاورة لهم، وقد صنعوا كل هذا حتى يعاملهم شعب إسرائيل بالرحمة، وقد كان، لأنهم اختاروا أن يدخلوا تحت مظلة رحمة الله فعاملهم الله بالرحمة طبقاً للقانون الذي وضعه.
قضية قلوب الملوك
– “قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ”. (أم21: 3)
هل معنى هذه الآية أنه يوجد بعض الناس بسبب وضعهم ومركزهم لا يوجد لديهم حرية الاختيار بل أن الله يميل قلوبهم إلى حيث يشاء هو وبحسب ما يريده بغض النظر عن إرادتهم الشخصية ورغبتهم وبالتالي يظهر أن الله يتحكم في مصائرهم؟ بالطبع ليس هذا هو المعنى المقصود في هذه الآية، بل أن المعنى هو أنه بسبب الوضع الخاص لبعض هؤلاء الناس مثل الملوك والرؤساء وتأثيرهم على الشعوب التي يحكمونها والأمم المحيطة بهم، فالله يستخدمهم لتحقيق مشيئته وخطته الالهية للخلاص التي ليس لها علاقة بالاختيارات الشخصية في الحياة، فهو يتمم خطة خلاصه التي وضعها لأجل البشرية دون العبث أوالتحكم في مصائرهم أو اختياراتهم الشخصية لخلاص أنفسهم. الآية هنا تتكلم عن صناعة التاريخ وليس عن مصائر البشر. وأصدق مثال على ذلك هو فرعون ملك مصر، فالله لم يحول قلبه دون إرادته رغماً عنه ليطلق الشعب، بل لقد صنع الله مشيئته رغماً عن إرادة فرعون وعناد قلبه، فهنا الله يتدخل لكي يبقي الحق معلناً أمام شعبه وأمام الأمم المحيطة به فهو يكتب تاريخ معاملات الله مع البشر.
والمثال الثاني هو هيرودس، لم يحول الله قلب هيرودس ويعبث بإرادته حتى لا يقتل أطفال بيت لحم، بل صنع مشيئته وأنقذ الطفل يسوع، وفي نفس الوقت لم يسمح الله لهيرودس أن يقتل أطفال أورشليم تحقيقاً للنبوة التي وردت في سفر إرميا: “هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ” (إر30: 15) وذلك لأن النبي يرى الحدث يتحقق أمامه لذلك فهو يكتب عنه ويصفه وليس العكس بمعنى أن النبي يتنبأ ثم يبدأ الله في تحقيق هذه النبوة.
إن هذه الآية: “قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ”. (أم21: 3) ليس معناها أن البشر كالعرائس في يد الله يحركهم كيفما يشاء دون اعتبار لإرادتهم، بل معناها أنه لا يستطيع أحد أن يقف أمام خطة الله لخلاص العالم. تستطيع فقط أن تختار مصيرك الأبدي فهو ِملك يمينك لكن تنفيذ خطة الله لخلاص العالم هي مسئولية الله، لذلك يوصينا الله أن نخضع لكل ذي سلطان حتى لو كان غير صالح لأن الله يستطيع أن يستخدم صلاح الملك وأيضاً يستطيع أن يستخدم شره لتحقيق مقاصده لخلاص الشعوب والأمم.
– “أَيُّهَا الْخُدَّامُ، كُونُوا خَاضِعِينَ بِكُلِّ هَيْبَةٍ لِلسَّادَةِ، لَيْسَ لِلصَّالِحِينَ الْمُتَرَفِّقِينَ فَقَطْ، بَلْ لِلْعُنَفَاءِ أَيْضاً”.(1بط2: 8)
– “لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِياً يُلاَحِظُ وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا. ” (جا5: 8)
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة نستكمل معاً موضوع سلطان الله ومسئولية الانسان
أسئلة للمناقشة
ماهو فهمك عن الله في قصة فرعون قبل سماعك هذه الحلقة؟
هل تغير فهمك عن من هو الله وكيف؟
ماذا تستفيد من فهمك الصحيح لهذه القصة؟
“الله يعاملنا بحسب اختياراتنا التي نختارها أما بعداً عنه أو قرباً منه” مارأيك في هذه العبارة؟ شارك من حياتك الشخصية ما يؤكد هذه العبارة أو ينفيها؟
إذا كان الله يتحكم في قلوب الملوك كما في الاية التالية “قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ”. (أم21: 3) فلماذا نرى ظلماً على الكنيسة وعلى اولاد الله؟
ماهو رأيك في هذه العبارة ” البشر كالعرائس في يد الله يحركهم كيفما يشاء دون اعتبار لإرادتهم” إذا كان رأيك بالايجاب أو بالنفي اذكر لماذا؟
لماذا يأمرنا الله أن نخضع للملوك والرياسات سواء كانوا صالحين أو أشرارا ؟