سلطان الله ومسئولية الإنسان – حلقة 5 – قضية الإختيار
في هذه الحلقة سوف نستكمل معاً بالدراسة والمناقشة بعض القضايا الاخرى الشهيرة والتي فيها تحتار عقولنا وقلوبنا في فهمها وفي كيفية مصالحة سلطان الله وقدرته مع حرية الانسان في الاختيار وحقه في تقرير مصيره الابدي
في الحلقات السابقة ناقشنا السؤال الذي حير الملايين من البشر وهو: هل الإنسان مخير أم مسير؟ هل هو يخضع لما نسميه في مجتمعاتنا العربية القضاء والقدر أو القسمة والنصيب؟ ورأينا كم تبعد هذه الأفكار عما يقوله الكتاب المقدس، فلا يصح أن تكون الاجابة واحدة من تلك الاختيارات سواء مسير أم مخير،
فالإنسان ليس مسيراً بالكامل ولا مخيراً بالكامل فهو كائن حر له حرية الاختيار الأدبي أو الأخلاقي سواء في علاقته مع الله أو مع الأخريين، وهذا البعد هو الذي يحدد سعادته وفرحته سواء هنا على الارض أو في الحياة الابدية، فنحن البشر لنا الحرية الكاملة في الاختيار في أمور عظيمة وهامة تؤثر على سعادتنا ومصيرنا وفي نفس الوقت ليس لنا حرية في اختيار بعض القرارات التي عادة يكون تأثيرها على حياتنا بلا قيمة تذكر
وفى رحلتنا هذه – حتى نستطيع أن نفهم الخط الفاصل مابين هذا وذاك – ذكرنا أن الله وضع قانون لحكم الحياة، فخلق الطبيعة ووضع لها القانون الذي يحكمها وكذلك خلق الكائن الحي ووضع له القانون الذي يحكمه. خلق الله الإنسان كائن أدبى حر ومسئول ووضع له قانون الحرية والمسئولية الذي به يحكم هذا الكائن الادبي، وتكلمنا عن عناصر هذا القانون الستة التي تُكمل بعضها البعض والتي ترسم صورة متكاملة لعناصرهذا القانون والتي تُجيب على العديد من التساؤلات التي تملأ عقولنا وقلوبنا.
في هذه الحلقة، سوف نبدأ معاً في استعراض بعض القضايا الشهيرة الموجودة في الكتاب المقدس والمطروحة أيضاً على الساحة الإيمانية في المجتمع المسيحي والتي تبدو لأول وهلة أنها متناقضة مع كل ما درسناه في الحلقات الماضية.
أشهر هذه القضايا هو مانسميه قضية الإختيار، بمعنى هل المؤمنون مختارون؟ وهل هم مختارون لانهم اختاروا أن يؤمنوا بالرب يسوع أم أن المسيح قد اختارهم بغير إرادتهم وبحسب علمه السابق تم تعينهم للخلاص؟ وإذا كان هذا هو مفهوم الاختيار، فهل هذا يتناقض مع حرية اختيار الانسان في تقرير مصيره الأدبي والسلطان الإلهي؟
نستعرض الكثير من الآيات التي تتكلم عن هذا الموضوع “الاختيار”:
– “1بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، إِلَى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. 2نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 3مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، 4كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، 5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، 6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، 7الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، 8ﭐلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، 9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ 11الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، 12لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ. 13الَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ” ( أفسس 1 : 1 – 13 )
– “سَلِّمُوا عَلَى رُوفُسَ الْمُخْتَارِ فِي الرَّبِّ وَعَلَى أُمِّهِ أُمِّي” ( رومية 16 : 13 )
– “عَالِمِينَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمَحْبُوبُونَ مِنَ اللهِ اخْتِيَارَكُمْ” (1تس1: 4)
– “وَأَمَّا نَحْنُ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمَحْبُوبُونَ مِنَ الرَّبِّ، أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ وَتَصْدِيقِ الْحَقِّ”. (2تس2: 13)
– “لأَجْلِ ذَلِكَ أَنَا أَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ، لِكَيْ يَحْصُلُوا هُمْ أَيْضاً عَلَى الْخَلاَصِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مَعَ مَجْدٍ أَبَدِيٍّ”.(2تي2: 10)
– “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً”. (رو8: 29, 30)
– “بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى الْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، الْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ”. (1بط1: 1, 2)
– “لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ”. (مت22: 14)
– “وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ.” (مت24: 22)
– “لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً”. (مت24: 24)
– “مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ!” (رو8: 33)
– “فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ أَيْضاً قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ اخْتِيَارِ النِّعْمَةِ”. (رو11: 5)
– “فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ احْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفاً، وَتَوَاضُعاً، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أناة” (كو3: 12)
– “لأَجْلِ ذَلِكَ أَنَا أَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ، لِكَيْ يَحْصُلُوا هُمْ أَيْضاً عَلَى الْخَلاَصِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مَعَ مَجْدٍ أَبَدِيٍّ”. (2تي2: 10)
– “هَؤُلاَءِ سَيُحَارِبُونَ الْخروف َ(الْحمل)، والخروف (الحمل) يَغْلِبُهُمْ، لأَنَّهُ رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ مَدْعُوُّونَ وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمِنُونَ”. (رؤ17: 14)
فسر البعض هذه الآيات وغيرها التي تتكلم عن نفس هذا الموضوع بالطريقة التالية:
إن كل البشرية كان مآلها الضياع والضلال ونتيجة لذلك فالكل مصيره الهلاك الأبدي، وليس هذا فقط بل البشرية في ضلالها أضحت غير قادرة على سماع صوت النداء الالهي أو حتى قادرة على وضع إيمانها في الاله الحي وهذا ليس خطأ الله بل هو خطأ الانسان ومسئوليته، ولكن الله فى رحمته الكثيرة مد يده ليختار بعض من الناس لينعم عليهم بالإيمان في شخصه ويعطيهم النعمة الإلهية لينالوا الخلاص الإلهي، أي أن كلا من الايمان والنعمة هما عطايا إلهية، ولايمكن للإنسان أن ينالهما بنفسه.
وبحسب هذا المفهوم يصنع الله كل شيء، فهو المسئول عن تقديم الخلاص للجنس البشري وأيضاً هو المسئول عن قبول الخلاص من ناحية البشرية، وللتدليل على هذا يسوقون قصة معجزة إقامة لعازر فالرب يسوع قد أقام لعازر من الموت دون أدنى مشاركة من لعازر نفسه فهو لم يستطيع أن يفعل شيئاً لأنه ميت في قبره فليس له قدرة على الحياة.
هذا الفكر نجده في عقول الكثيرين من المؤمنين، ولكنه يتناقض مع كون الإنسان كائن أدبي مسئول وله حرية اختيار تحديد مصيره الأدبي، فهذا الفكر يعطي الله السلطان المطلق على حياة الانسان وبالتالي يناقض هذا الفكر ما نفهمه عبر صفحات الكتاب المقدس عن حرية الانسان ومسئوليته وقضاء الله وسلطانه وحتى يمكننا تفسير الآيات السابقة وتوضيح العقيدة التي تسمى الاختيار فسنبدأ بالآتي:
(1) الكفارة هي للجميع
عندما قدم المسيح نفسه كفارة عن الخطية قدم نفسه ليس عن مجموعة من الناس فقط لكي يمحي خطاياهم بل قدم نفسه كفارة عن العالم أجمع أي عن كل البشرية، فإذا كان الله قد اختار بعض الناس لكي يفديهم، فلماذا إذاً مات لأجل الجميع ودفع هذا الثمن الباهظ وهو يعرف أنه لن يُخلص كل البشرية؟ أيضاً هل الله في محبته الغير محدودة التي أحبنا بها من الممكن أن تكون إرادته أن ينقذ فقط قلة قليلة من البشر ويترك الباقي إلى العذاب الأبدي؟
هنا العديد من الآيات التي توضح وتؤكد أن الكفارة للجميع:
– “فَإِذاً كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هَكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ”. (رو5: 18)
– “لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ”.(2كو5: 14, 15)
– «وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأَرْضِ أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ» (كو 1: 20)
– “اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَيَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟” (رو8:32)
– «الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ»(1تي 2: 6)
– “وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِد”ٍ (عب2: 9)
لاتوجد آية واحدة في الكتاب المقدس تذكر أن المسيح بذل نفسه لأجل المؤمنين به أو المختارون فقط.
وعلى نفس هذا المنوال إذا كانت الكفارة هي للجميع، فماذا عن الحب الالهي هل هو للجميع أم هو لبعض من الناس؟ إذا كان للجميع فلماذا يمد الله يده لينقذ مجموعة من الناس ليعطيهم نعمة الخلاص والباقيين يهلكون، فكيف يكون هذا حباً؟
(2) المحبة والخلاص للجميع
– “لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ”. (يو3: 16)
– “الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُون”َ (1تي2: 4)
– “لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لَكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ”. (2بط3: 9)
– “قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ, بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا. إِرْجِعُوا ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الرَّدِيئَةِ. فَلِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟” (حز33: 11)
يوضح الوحي في الآية الأخيرة رغبة الله الصادقة المخلصة الباحثة عن الحياة لشعب إسرائيل وكأنه يتوسل إليهم أن يرجعوا عن طرقهم ليحيوا، ويتساءل متعجباً: لماذا قررتم أن تسلموا حياتكم للموت، فإذا كان الله بالحقيقة بيده السلطان للاختيار فلماذا لم يختارهم؟! وهل يُعقل أن الله في موضع كهذا يظهر وكأنه يرجوهم أن يرجعوا اليه ويحتار فيهم لاجل اختيارهم الخاطئ، وفي موضع أخر كأنه يصرف وجه عنهم ليختار فئة أخرى بحسب استحسانه؟!
من هم المختارون ومامعنى كلمة الاختيار؟
هناك ثلاث معان لكلمة الاختيار، وهي تظهر جلياً في كل الآيات السابق عرضها:
1) إن الله اختارنا في المسيح
اختار الله أن يكون الخلاص من خلال تقديم المسيح نفسه كفارة عن جميعنا، بمعنى أخر إنه من خلال عمل المسيح في الصليب الله مد يده لكي يخلصنا، فليس الاختيار هنا هو تعيين جماعة من البشر لنوال نعمة الخلاص، لكن الاختيار هنا معناه إن الله اختار المسيح لتكون لكل من يؤمن به الحياة الأبدية، ويكون هو الطريق والحق والحياة أيضاً، وهذا ما نراه في المقطع الكتابي الذي ذكرناه سابقاً من رسالة أفسس ( 1 : 1 – 13 ).
يوضح الرسول بولس في هذا المقطع ماهية الاختيار، ففي بداية الآيات أقرن كلمة “الاختيار” بكلمة “فيه” حتى يخبرنا ويؤكد لنا بأن الاختيار والتعيين هو في المسيح، ثم استمر في باقي الآيات يردد كلمة “فيه” حتى أنه كررها إحدى عشر مرة. إذاً الموضوع الذي يركز عليه الوحي في هذا المقطع الكتابي ليس هو موضوع الاختيار بل الرب يسوع الذي فيه قرر الله أن يختارنا ويُعيننا ويرحمنا ويباركنا وينعم علينا.
2) إن الله اختار جماعة
المعنى الثاني للاختيار والذي يظهر في الآيات السابقة هو الاختيار الجماعي وليس الاختيار الفردي، بمعنى أن الله اختار جماعة من الناس وليس أفراداً وهذه الجماعة هي الكنيسة، وحتى ندرك بالفعل أن الاختيار الجماعي هو من طرق الله التي يتعامل بها مع الانسان سنرجع إلى العهد القديم عندما صنع الله عهده مع شعب إسرائيل واختارهم جماعة ليعلن نفسه في وسطهم فيكونون أمة شاهدة عنه وحاملة لمجده وليأتي المخلص من وسطهم. وبالمثل في العهد الجديد قطع الله عهده مع الكنيسة التي هي جسده، فكل من يقرر أن ينتمي لهذا الجسد ليصير عضو فيه وذلك عن طريق أن يختار الرب يسوع مخلصاً شخصياً له ويولد الولادة الروحية التي من فوق فهو مختار للحياة الأبدية، وكل من قرر بحرية إرادته أن يرفض هذا الجسد الذي هو الكنيسة وينفصل عنها فهو يقرر بالتالي أن ينفصل عن مصدر الحياة الذي هو الرب يسوع فيكون غير مختار للحياة الأبدية والخلاص. وهنا نفترض أن هناك دائرة وهذه الدائرة هي الجماعة المختارة، فكل من يختار أن يدخل هذه الدائرة فهو بالطبع يصير من المختارين وكل من يريد أن يظل خارج هذه الدائرة فهو من غير المختارين:
– “عَالِمِينَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمَحْبُوبُونَ مِنَ اللهِ اخْتِيَارَكُمْ” (1تس1 : 4 )
– “وَأَمَّا نَحْنُ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمَحْبُوبُونَ مِنَ الرَّبِّ، أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ وَتَصْدِيقِ الْحَقِّ.” ( 2تس2 : 13 )
– “لأَجْلِ ذَلِكَ أَنَا أَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ، لِكَيْ يَحْصُلُوا هُمْ أَيْضاً عَلَى الْخَلاَصِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مَعَ مَجْدٍ أَبَدِيٍّ”. (2تي2: 10)
3) الإختيار بحسب علم الله السابق
– “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً”. (رو8: 29, 30)
يلاحظ في هذا النص أن الله ” سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ”، فكلمة المعرفة سابقة على كلمة التعيين، فاختياره وتعيينه لهم ليس على أساس الغصب والاجبار وإنما على أساس معرفته السابقة لهم، فهو يختار ويعين الذين يعرف أنهم يقبلون نعمته في كمال حريتهم وإرادتهم.
– “بطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى … الْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ.” (1بط1: 1، 2).
أيضاً في هذا الشاهد، يعلن الوحي أن المختارين هم بحسب علمه ومعرفته السابقتين.. وهم سوف يقبلونه رباً ومخلصاً فهم مختارين بحسب علمه السابق وليس حسب إرادته في أن يختار البعض ويرفض البعض الآخر.
هذه هي الثلاث معاني لكلمة “الاختيار” التي وردت في كل الآيات التي تتكلم عن هذا الامر في الكتاب المقدس، وهذه المعاني مبنية ومؤسسة على حقيقة مُتفق عليها وهى أن الكفارة للجميع والحب الالهي هو لكل البشرية وأن الدعوة والأشواق الإلهية هي للعالم أجمع.
أخيراً، في نهاية هذه الحلقة نتناول الآية التي جاءت في رسالة أفسس والتي يُبنى عليها فكرة أن الاختيار هو من الله:
– “لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ”. (أفسس 2 : 7 , 8 )
الكثيرون يفسرون هذه الآية بأن الخلاص هو بالفعل عمل النعمة وطريقة الحصول عليه هو بالإيمان الذي هو أيضاً ليس منا، بمعنى أخر أن جملة “وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ” تعود على الإيمان وعلى النعمة أيضاً، فإذا كان التفسير هكذا فما هو دور الانسان في الخلاص؟! هذا يعني بأن الانسان ليس له دور في الخلاص فالله هو الذي ينعم علينا بالخلاص والله أيضاً هو الذي يعطينا الإيمان لكي نستطيع أن نتجاوب مع الخلاص الالهي المقدم لنا!
لكن بالتدقيق يتضح لنا التفسير الصحيح لهذه الآية وهو أن الخلاص ليس بحسب إمكانياتنا البشرية بالفعل بل هو بالنعمة التي ليست منا فجملة ” وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ” تعود على النعمة، أما الطريقة التي بها ننال الخلاص فهو الإيمان بالرب يسوع المسيح، وهذا الإيمان هو الدور الإنساني الذي به يتجاوب البشر مع النعمة الإلهية المقدمة لنا. يتضح لنا هذا عند الرجوع للغة الأصلية التي كُتب بها العهد الجديد وهي اللغة اليونانية، ففي أصول هذه اللغة ثلاثة أنواع لجنس الكلام فهناك المذكر والمؤنث والمحايد، وبالتدقيق وجدنا أن كلمة “الإيمان” πίστις هي كلمة مؤنثة، وكلمة “ذلك” τοῦτο هي كلمة محايدة، وبالتالي لا يمكن أن تشير كلمة “ذلك” إلى كلمة “الإيمان” لاختلافهما في الجنس بل تشير إلى كلمة “الخلاص” لأن هذه الكلمة تأتي محايدة مثل كلمة “ذلك”.
وهناك قول أخر يعترض على كون الإيمان هو دور إنساني يقوم به الشخص حتى يمكنه أن يقبل الخلاص، وذلك حتى لايكون هذا الإيمان هو مصدر افتخار الانسان على الله على إعتبار أن الانسان عمل عملاً عظيماً الذي هو الإيمان حتى يستحق أن ينال به الخلاص. ولكن دعونا ندقق في حجم هذا العمل الذي عمله الإنسان، هل هو بالفعل عمل استحق منه مجهوداً كبيراً أم هو مجرد إعلان قبوله لعمل نعمة الله في قلبه؟ فأين الافتخار إذاً؟ هل قبولنا لعمل النعمة هو إنجاز يدفعنا إلى الافتخار أم تصديقنا للحب الإلهي المجاني يجعلنا نتعالى على مصدر هذا الحب الغير محدود؟ أين الافتخار إذاً ؟!!
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة لنتناول معاً باقي المشاكل في نفس الموضوع
أسئلة للمناقشة
مامعنى كلمة الاختيار بحسب مافهمته؟
ما معني أن الكفارة والحب للجميع ؟
كيف يمكن أن يؤثر فهمك لقضية الاختيار على فهمك لشخصية الله؟
كيف يمكن أن يؤثر فهمك لقضية الاختيار على حياتك الروحية وعلاقتك بالله؟