حلقة 64 – العلاقة مع الآخرين .. كيفية التجسد

توقفنا في الحلقات السابقة عند علاقة الخادم بمفتاح الخدمة الأساسي التجسد والذي يتمحور حول عنصرين رئيسيين
أولًا: التخلي عن الحقوق لأجل خير الآخر
التجسد لا يبدأ بالكلام، بل يبدأ عندما أتنازل عن حقي عن راحتي عن مركزي لأجل الآخر، بولس الرسول قدّم نموذجًا رائعًا في هذا حين تنازل عن حقه في محاكمة عادلة فدخل السجن لا كمجرم، بل كرسول ليصير سجينًا لأجل أن يربح السجناء
ثانيًا: أن أصير لكل واحد كما هو
هذا يعني أن أضع نفسي مكان الآخر أفكر مثله أشعر بما يشعر وأدخل إلى عمق احتياجه، بولس عبّر عن هذا بوضوح في (1كو 9: 20 – 22)
“فصرت لليهودي كيهودي لأربح اليهود وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لكي أربح الذين تحت الناموس وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس لله بل تحت ناموس المسيح لأربح الذين بلا ناموس صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء صرت للكل كل شيء لأخلّص على كل حال قوماً”

أهمية التجسد
لأننا لن نصل إلى الناس بالكلمات فقط، بل بالفهم العميق لما يدور في داخلهم، كيف يفكر
ماذا يؤمن؟ ما هي مشاعره؟ هل يشعر بعدم الأمان؟ هل يظن أنه يجب أن يجاهد كثيرًا ليصل إلى الحياة الأبدية؟ هل يشعر أنه غير مقبول من الله؟
إذا لم أفهم ما يدور في فكره وقلبه فكلامي سيبقى بعيدًا عنه كأنه يطير في الهواء لكن عندما ألمس مشاعره واحتياجه الحقيقي ينفتح قلبه لسماع رسالة الحياة
الأرضية المشتركة
ما هي اللغة التي يحب بها الشخص أن يسمع رسالة الحياة الجديدة؟ هذا سؤال جوهري يجب على كل خادم أن يسأله لنفسه. لقد رأينا مثلًا بولس، عندما تكلّم بالعبرانية، عمّ الصمت والاحترام، لأن الناس سمعوا الرسالة بلغتهم المألوفة والمحبوبة، وهذا يوضح لنا أن اختيار لغة المخاطبة ليس أمرًا هامشيًا، بل هو عنصر أساسي في توصيل الرسالة.
نحن توقفنا سابقًا عند فكرة الإخلاء، لكننا لم نعطِ القدر الكافي من التركيز للفكرة الثانية المكملة لها، وهي أن أضع نفسي مكان الآخر. هذه ليست مجرد نقطة فرعية، بل هي مفتاح حقيقي لفهم التجسد. أن أضع نفسي مكان الآخر تعني أن أبحث عن الأرضية المشتركة التي تجمعني به، الأرضية التي من خلالها أستطيع أن أقول له: أنا فهمتك، شعرت بك، عرفت احتياجك، وعرفت اللغة التي تحب أن تُكلم بها.
ربما تكون الموسيقى هي لغته، أو الرياضة، أو الفن. لهذا السبب نرى خدمات مثل “احسبها صح” تنجح في الوصول إلى أعداد هائلة من الناس، لأنها ببساطة تعرف كيف تخاطب كل شخص بلغته الخاصة. من يحب الرياضة يجد فيها رياضة، من يحب الفكر يجد فيها فكرًا، من يحب المسرح أو السينما أو الفن يجد ما يلمسه ويجذبه. لهذا التأثير الكبير ليس صدفة، بل لأنه نابع من تجسد حقيقي وفهم للناس واحتياجاتهم المختلفة.
في إحدى خيام الخدمة هذا العام أنشأنا خيمة بسيطة جدًا باسم “فضفضة”، واستهدفت ببساطة الأشخاص الذين يشعرون بالحزن أو التشتت ويريدون فقط أن يخرجوا ما بداخلهم. لم يكن الهدف تقديم موعظة، بل فقط أن يجد الشخص من يسمعه. هذا الاحتياج تم تلبيته ببساطة، وكانت النتيجة أن الناس بدأوا يفتحون قلوبهم، فقط لأن أحدًا اهتم أن يفهمهم ويستمع إليهم.
من هنا نرى أن نقطة البداية يجب أن تكون من الأرضية المشتركة. لا يمكنني أن أبدأ من نقطة خلافية أو بعيدة عن الآخر وأتوقع أن يصغي إليّ. إذا فعلت ذلك، أكون قد وضعت نفسي في جانب وهو في جانب آخر. أما إذا بدأت من أرضية مشتركة، من فهم حقيقي له، عندها يمكنني أن أبدأ حديثًا صادقًا، يقوده تدريجيًا إلى أعماق جديدة، ومعانٍ لم يكن يدركها من قبل.
ما أريد أن أؤكده هو أننا حين نتحدث مع شخص لا يؤمن بالله أو يعرّف نفسه كملحد، علينا أولًا أن نفهم طبيعة الإلحاد الذي يؤمن به. فجزء كبير من الملحدين في هذه الأيام لم يعودوا يؤمنون بالإلحاد بمعناه التقليدي، الذي ينكر وجود الله تمامًا، بل تحولوا إلى ما يُعرف بـ “الربوبية”. وهو من يؤمن بأن هناك إلهًا خالقًا، لكن لا يتبع دينًا معينًا، وغالبًا ما يكون سبب هذا التحول هو العلم، إذ يجد العديد من العلماء اليوم صعوبة في قبول فكرة أن هذا الكون جاء من لا شيء. حتى هوكينغ، الذي كان يدافع عن فكرة الإلحاد، قبل وفاته تراجع جزئيًا وقال إن فكرة أن الوجود كله جاء من العبث غير منطقية. إذًا هناك اليوم أعداد كبيرة من الناس الذين يؤمنون بوجود إله لكنهم يرفضون الأديان، ويرونها اختراعات بشرية متضاربة ومربكة.
وهنا نجد أننا نمتلك أرضية مشتركة مع هؤلاء، لأننا نحن أيضًا لا نقدّم المسيحية كدين بالمفهوم التقليدي، بل كعلاقة حية مع شخص حي هو المسيح. المسيحية ليست طقوسًا جامدة أو ممارسات سطحية، بل هي شركة مع الله الذي قال “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”.
فحين جاءني أحدهم إلى مكتبي وقال لي إنه لا ديني، أجبته: وأنا أيضًا لا أؤمن أن المسيحية ديانة، لأن المسيحية ليست دينًا، بل علاقة. وعند هذه النقطة وجدنا أرضية مشتركة وبدأ الحوار. هذه هي البداية الصحيحة للحوار مع الآخر، من أرضية مشتركة يمكن أن ننطلق منها، لا من خلاف مباشر.
ومن هنا ننتقل إلى الكتاب المقدس، حيث نجد أن بولس نفسه استخدم هذا المبدأ بوضوح في قصة أريوس باغوس. ففي هذا المكان، الذي كان يجتمع فيه الفلاسفة والمتحدثون والمهتمون بالأفكار الجديدة، بدأ بولس حديثه لا بهجوم أو برفض لأفكارهم، بل قال لهم: “أيها الرجال الأثينيين، أراكم من كل وجه كأنكم متدينون كثيرًا”، ثم أشار إلى مذبح كان لديهم مكتوب عليه “لإله مجهول”، وقال لهم: “الذي تتقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنادي لكم به”.
بولس بدأ حديثه من مكان يعرف أن الناس مستعدون للاستماع فيه. استخدم مفرداتهم، واحترم تفكيرهم، واقتبس حتى من شعرائهم حين قال “لأننا أيضًا ذريته”. ثم بدأ في بناء حوار منطقي معهم: إذا كنا نحن ذرية الله، فكيف نتصور أن الله يمكن أن يُصنع من حجر أو ذهب أو خشب. بولس لم يدخل إليهم من الخارج، بل دخل إليهم من الداخل، من خلال فهمه لعالمهم ولغتهم وثقافتهم.
وبالتالي، نحن أيضًا لا يجب أن نبدأ بالحكم أو بالرفض، بل بأن نفهم الآخر، ونكتشف الأرضية التي نتقاطع فيها معه. وهذا يتطلب استعدادًا لأن نقرأ، ونبحث، ونفكر، وأن نسير بين الناس ونتأمل فيما يعبدون، وكيف يفكرون، تمامًا كما فعل بولس قبل أن يقف في وسط أريوس باغوس ليلقي كلمته.
بولس في أريوس باغوس قدّم لنا نموذج عظيم في التواصل مع الآخر. لم يبدأ بالصدام أو الاختلاف، بل بدأ من أرضية مشتركة وهذا ما نحتاجه اليوم، أن نبدأ مع الناس من النقاط التي نتفق فيها، لا من التي نختلف عليها.
في أيامنا هذه، كثير ممن كانوا ملحدين صاروا “روبيين”، أي يؤمنون بوجود إله لكن يرفضون الديانات. وهنا تظهر فرصة ذهبية، نحن أيضًا لا نقدّم المسيحية كديانة مليئة بالطقوس، بل كعلاقة حية مع شخص هو المسيح. هنا نلتقي معهم على أرضية مشتركة ونبدأ الحديث.
وهذا المبدأ لا يقتصر على الفكر فقط، بل يمتد لكل تفاصيل الخدمة.
الكنيسة مدعوة أن تتجسد في كل مجالات المجتمع: الرياضة، الفن، الإدمان، العائلات، السجون… كل فئة لها لغتها، ومن يفهم لغتها يستطيع أن يصل إليها. الذين تعافوا من الإدمان هم الأفضل في الوصول للمدمنين. المجروحين الذين شفاهم الله هم الأقدر على مداواة الجراح. هذا هو التجسد الحقيقي.
نحن لا نغير إيماننا، بل نغيّر لغتنا وأسلوبنا لنقرب الرسالة. لسنا بحاجة للكلام المعقّد ولا للمظاهر الدينية، بل للحقيقة التي تلمس القلب.
وفي النهاية، التجسد هو مفتاح الخدمة الحقيقي أن أتخلى عن رسمياتي، عن راحتي، عن صورتي، لأصير للكل كل شيء، لكي أخلّص على كل حال قوم.